قصة رومنسية قبل الموت ب قليل

 فيلم “جزيرة ليلى” الهام الصمت في قصة رومانسية قبل الموت بقليل


جريدة القدس العربي الناقد كمال القاضي



في طرح غير اعتيادي وافتراض مثير لإمكانية الحياة فوق جزيرة معزولة تتولد معاني العلاقة الإنسانية بين رجل تجاوز السبعين من العمر وفتاة فوق العشرين. تلك كانت الحكاية في فيلم “جزيرة ليلى” القصير للمخرج المغربي مصطفى الشعبي، حيث تبدأ الأحداث بظهور شيخ عجوز بلحية بيضاء وهو يُمعن في البحث عن قطع من الخشب لإشعالها ليستدفئ من البرد القارص، وكأن الصقيع الذي يعانيه هو مرادف لبرودة المشاعر وجفاء الحياة في النفي الاختياري الذي رآه العجوز مناسباً له قبل أن تبرق أضواء الحب الآتي له من الغيب.


تشتعل النيران وتبقى متوهجة وينزاح الليل شيئاً فشيئاً فتتكشف ملامح فتاة في مُقتبل العمر تقذف بها أمواج البحر إلى الشاطئ في حالة إعياء كامل، وهنا تبدأ أولى تفاصيل السيناريو المُحكم الخالي من أية جملة حوارية لأن المعنى غني عن التعريف والتعبير بالكلام والصوت، فلا حاجة لهما في ظل التواصل الطبيعي بين البطلين الوحيدين في الفيلم الشاعري المبني على أبجديات القصيدة العاطفية، فالفتاة الرقيقة جميلة الطلة والقسمات لا تحتاج إلى أكثر من إشارة لاستبيان تأثيرها الروحي والوجداني على شيخ هرم وبلغ من العمر عتياً، لكنه يحمل بين جنبيه قلباً حنوناً لا يزال ينبض بأنبل المشاعر وأكثرها حيوية وتفاعلاً في تحدي للسنوات المعدودة في حياته ومشواره، وكذلك الفتاة برغم الإعياء والإرهاق تبدو بهية موحية بالوجود والتفاؤل.


وبين احساسين متناقضين ومسافة شاسعة بين شباب الفتاة القادمة من البحر محمولة على الأمواج، وكهولة الشيخ الطاعن في السن تتوالى الأحداث ملفوفة بالصمت وتتابع مشاهد الإيثار والعاطفة الإنسانية المتنامية في وجدان الرجل الذي يساعد الزائرة الوحيدة للجزيرة المعزولة على التخلص من الماء الذي ملأ جوفها والتماثل التدريجي للشفاء، تاركاً لها مخدعه كي تنعم بالراحة والاسترخاء، كمقدمة للبوح الصامت بمشاعره الفياضة تجاهها، بينما هي فاقدة للوعي سابحة في غيابها الكامل عن أي شيء.


وتتأكد نتيجة الارتباط العاطفي من جانب العجوز في عدة صور وتلميحات ذكية متوارية خلف النظرات المُشفقة ومسحة اليد الحانية على جبين الحبيبة وشعرها المنسدل على صدرها وحول عنقها، والاطمئنان المتوافر للجسد الممدد فوق الفراش من غير انتهاك أو طمع، غير الدفء المُنبعث من وقود النار المُشتعلة في القلب والموقدة في الجزيرة لتنير الطريق وتخيف الذئاب وتبعد خطرها وأصواتها المزعجة عن مسامع الجميلة المُنتظر قيامها مع طلوع الفجر.


كل المكونات في المشاهد الرمزية الحية تذهب إلى أبعد ما يتصور المُتلقي عن نهاية القصة، فالمخرج مصطفى الشعبي يأخذنا إلى مدار آخر تتعاظم فيه الروح وتسمو فيه المشاعر، وفي كل تفصيلة يتألق الممثل القدير حميد نجاح في تجسيد المعنى والمغزى من غير حاجة إلى حوار منطوق، اللهم غير عينين تلمعان لمعاناً حقيقياً بالحب وفيض الإخلاص تجاه الحبيبة النائمة في خيمة الإيواء المنصوبة فوق الربوة العالية للاحتماء والإستدفاء والعزلة، وهو المعنى الدلالي المقصود للراحة والاستجمام كمؤشرين حاضرين بقوة في كل المشاهد بمستويات الفهم المختلفة للرسالة السينمائية البليغة التي تضع حداً دقيقاً فاصلاً بين الوجود والعدم وهو ما نراه واضحاً كل الوضوح في الاقتراب الحثيث من النهاية وتعلق البطل بمقتنيات الفتاة وتأملها تأملاً فارقاً عبر الإحساس بملمس الأشياء وماهيتها وقيمتها الإنسانية، فهو يُمسك بخفيها بعناية ويظل مُمسكاً بهما في لحظة تتأوه هي فيها لتُعلن بقائها على قيد الحياة، بينما يهرول هو إليها ليُدركها قبل الغرق مجدداً في الغيبوبة، لكنها في لحظة خاطفة تُطلق زفيراً قوياً وتغادر عالم الأحياء تاركة الجزيرة والصمت والشيخ وآخر ما تبقى من أشيائها الثمينة قلادة حول عنقها يخلعها الرجل عنها في رفق ويقبض عليها كأغلى ما يملكه من تركة وميراث، قبل أن يواري جسد حبيبته وابنته وفتاته الوحيدة الثرى.


مرثية شجية لحياة وعالم مثالي نقي جسدته الصورة وفارقة الحوار في قصدية مهمة من جانب المخرج وكاتب السيناريو مصطفى الشعبي لاكتمال الشكل والمضمون بمعزل عن معطيات التواصل التقليدية، وعبور على فكرة استثنائية خاصة مفادها أنه لا هروب من الموت أو القدر ولا فرار من القدر المكتوب، فمن نقابله اليوم نفارقه غداً وإن امتدت الأيام طويلاً أو قصرت فالمصير واحد ولا معيار للسن في حقيقة الموت المُطلقة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيفية الحصول على بطاقة الفنان

مسيرة الفنان مبارك العطاش

من هو الحسين الباز